ثم يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (والكلام على ذلك في عشر مقامات) أي: أن الكلام في إثبات وجوب التحاكم إلى الأحاديث والاحتجاج بها، وأخذ العقيدة عنها متى ما صحت، سواء كانت متواترةً أو آحاداً في عشر مقامات، وهذا من تبحره في العلم رحمه الله تعالى، وحقيقة أنه كما عبر ابن القيم في هذا الكتاب أنه قال: ما أتي به في هذا الكتاب أو غيره فهو من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فكلنا من بحره نغترف، وبالتالي فهذه العشرة المقامات مأخوذة من كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله.
يقول رحمه الله: (أحدها: في بيان إفادة النصوص الدلالة القطعية على مراد المتكلم) أي: أن الألفاظ تدل على المراد، وأن نصوص الكتاب والسنة تدل على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم منها.
ثم قال: (وقد تقدم الكلام في ذلك) أي: عندما تكلم عن موضوع طاغوت المجاز، وطاغوت التأويل، فمثلاً: صفة اليد، يقولون -بزعمهم-: إما أنها مجاز، وإما أن نؤولها, ولذلك ابن القيم لما هدم هذين الطاغوتين علمنا أن الألفاظ تدل على اليقين، ويعني هذا: إنكار المجاز والتأويل.
قال: (والثاني: أن هذه الأخبار -الصحيحة- التي زعموا أنها آحاد، موافقة للقرآن، مفسرة لما جاء فيه، مفصلة لما أجمل، وهي أيضاً موافقة للأحاديث المتواترة، وبالتالي إذا قبلنا الآية فنقبل الحديث الذي جاء موافقاً لها، ولا تعارض والحمد لله بين هذه الأحاديث وبين الآيات، وهذا ذكر له الشيخ باباً وأطال فيه، ولعلنا نأتي على شيء منه.
قال: (الثالث: بيان وجوب تلقيها بالقبول) أي: أن نبين أنه يجب على كل مؤمن أن يتلقى ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول، ولا يسعه إلا ذلك، ولا يجوز له أن يرد أي حديث يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي علة من العلل، والمقصود بالرد: الرفض، وليس المراد ألا يعمل به؛ لأنه رجح رواية أخرى أو حديثاً آخر.
قال: (الرابع: إفادتها للعلم واليقين) أي: بيان أن هذه الأخبار الآحادية تفيد العلم واليقين.
قال: (الخامس: بيان أنها لو لم تفد اليقين فأقل درجاتها أنها تفيد الظن الراجح، ولا يمتنع ثبوت الصفات والأفعال به) وهذا نقوله تنزلاً فقط.
قال: (السادس: أن الظن الحاصل بها أقوى من الجزم المستند إلى القضايا الوهمية الخيالية التي يسمونها: عقلية).
قال: (السابع: بيان أن كون الشيء قطعياً أو ظنياً أمر نسبي إضافي) أي: ما يكون قطعياً عندك يكون ظنياً عند غيرك والعكس.
قال: (الثامن: بيان الإجماع المعلوم على قبولها وتلقيها) أي: فيكون أهل البدع شاذين خارجين عن الإجماع وعن الأمة.
قال: (التاسع: بيان أن قولهم: إن خبر الواحد لا يفيد العلم قضية كاذبة باتفاق العقلاء).
قال: (العاشر: جواز الشهادة لله سبحانه وتعالى بما دلت عليه هذه الأخبار، والشهادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بها عن الله، وهذا يرجع إلى تلقيها بالقبول).
إذاً: القضية الأولى: أنها تفيد اليقين، فهذه في الرد على المجاز وعلى التأويل.
القضية الثانية: موافقة أحاديث الآحاد للقرآن، وكمثال لذلك حديث: ( قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن )، وحديث الجارية: ( أين الله؟ قالت: في السماء )، وحديث القدم، إلى آخر هذه الأحاديث؛ فإنها لا تتعارض مع القرآن، بل هي موافقة له، مفسرة موضحة، فمثلاً: إذا قال الله تبارك وتعالى: (( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ))[الملك:16]، فإن أهل البدع يؤولونها فيقولون: ملكه أو سلطانه أو أمره أو عقوبته؛ حتى لا يثبتوا لله العلو، فنقول: الآية تدل على أنه تبارك وتعالى في السماء، أي: فوق العالم، وحديث الجارية حديث آحاد، فاتفقت الآية والحديث، والحديث بين وفصل، بمعنى: أنه لو جاء واحد وقال: إن المعنى أأمنتم من في السماء ملكه أو سلطانه أو عقوبته، نقول: لا، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال: أين عقوبة الله؟ أو: أين أمر الله؟ أو: أين رحمة الله؟ وإنما قال: أين الله؟ فالمسئول عنه هو الله، وذات الله تبارك وتعالى، والجواب: كان (في السماء) كما في الآية، وبالتالي فلا تعارض بين هذا الحديث والآية، وابن القيم رحمه الله تعالى يقول: انظروا إلى موافقة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة أهل الكتاب لما جاء في التوراة و الإنجيل ، فما بالكم بموافقة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الحكمة ومن السنة لما جاء في القرآن؟ ونذكر دليلين على ذلك:
الدليل الأول: النجاشي رضي الله تعالى عنه عندما سمع ما قرأه عليه الصحابة من صدر سورة مريم، فقال: [إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة] فإذاً اتفق ما جاء في القرآن مع ما جاء في التوراة وكذلك ما جاء في الإنجيل.
الدليل الثاني: قال ورقة بن نوفل: [هذا هو الناموس الذي أنزل على موسى] إذاً اتفق القرآن مع هذه الكتب (( مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ))[المائدة:48]، أي: مصدقاً لما معكم، فكيف بالتطابق والتوافق بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي الوحي الثاني أو الوحي الآخر الشارح المبين المفسر لما جاء به القرآن؟ لا بد أن تكون متطابقة وهكذا.
ومثله أيضاً ما جاء في الصحيح وهو آحاد: ( أحل عليكم رضواني )، فأثبت الرضوان، وجاء في القرآن: (( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ))[المائدة:119]، وفي حديث الاستخارة: ( اللهم إني أستخيرك بعملك واستقدرك بقدرتك )، وقد جاء العلم والقدرة في القرآن، فهذه أحاديث الصفات جاءت في القرآن، وإن كان بعض الصفات لم يثبت إلا من خلال الأحاديث، فهو لا يتعارض مع ما جاء في القرآن.